الصدقة
الصدقة
لا أظن أن أحداً ينكر فضل الصدقة أو لا يعرف عظم قدرها. حثنا الرسول صلى الله عليه و سلم على كل أعمال الخير و التطوع, في كل المجالات و ليس فقط في الجوانب المالية. الصدقة لا تكون فقط بالمال, بل أي عمل يمكن أن يكون صدقة إن نوينا ذلك, و كأن النبي صلى الله عليه و سلم عندما حثنا عليها أراد للمجتمع الإسلامي أن يكون “جمعية خيرية” كبيرة تفيد أفرادها و كل من يحتاج المساعدة.
الأحاديث في فضل الصدقة كثيرة و معروفة, و للكثير منا مواقف و تجارب في عجائبها. أنا اليوم لن أتحدث عن الصدقة من الناحية الدينية البحتة, و لن أذكر الأحاديث الشريفة فيها, لكنني سأتحدث عن تجربتي مع الصدقة.
لما كنت في الثانوية العامة كنت أعتاد على سماع مقولة أستاذ اللغة العربية الفاضل, الأستاذ جمال الباشا, عن مرتبه الشهري “و الله لو حسبت الفواتير و الالتزامات الشهرية و قارنتها بالمرتب لكانت ضعفه, لكن الله يبارك في المال الحلال و يكفيك لا تعرف كيف!”. و كنت أسمع عن قصص أناس ضاقت بهم الحال فتصدقوا و تبرعوا فوسع الله عليهم و بارك لهم بأموالهم.
صدقوني لما كنت أسمع هذه القصص كنت أقول “مبالغات” أو “خيالات”, و لا يعرف المرء عظم الشيء و فضله إلا لما يجربه و يختبره. لما صرت في الجامعة و ابتعدت عن أهلي في الغربة, صار لي مصروفي و حساباتي المستقلة, و مع كل ما سمعته عن فضل الصدقة و عظم أجرها إلا أنني لم أكن أداوم عليها, بل كنت أتصدق كلما رأيت مناسبة بذلك كصندوق الزكاة أو تبرعات المسجد بعد صلاة الجمعة. ثم بعد فترة كنت خارجاً من محل الصرافة و كان على الجانب الآخر من الشارع مقر لجمعية اسمها جمعية الحصري (سمعت أن مؤسسها هي بنت الشيخ القارئ محمود الحصري رحمه الله) لها جامع ضخم كبير و مستشفى و دار أيتام و الكثير من النشاطات الخيرية. قطعت الشارع, و فكرت في نفسي “إن كنت أصرف أحياناً في يوم و ليلة على أكلي و لهوي المبلغ الفلاني فلم لا أتبرع بهذا المبلغ لهذا الشهر؟” و فعلت و كان في صدري إحساس يسري, كان شعوراً جميلاً قلما شعرت به من قبل. كنت أريد أن أراقب مصروفي لذلك الشهر, هل لو استمريت بهذا الشكل سيزيد أم لا, ثم في الشهر التالي ضاعفت المبلغ و لم أضيق على نفسي في باقي النواحي و للعجب لم يتغير مصروفي!
ثم قررت أن أتصدق في كل شهر بمبلغ محدد ألتزم به, و تركت تدوين الحسابات كبيرها و صغيرها و صرت كل شهر أصرف مبلغاً محدداً لا أتابع فيم أصرفه, و للعجب قل صرفي!!
قيل أن قليلاً مستمر خير من كثير منقطع, جربوا أن تدخروا قطعة واحدة من العملة (دينار, درهم, ريال, جنيه… إلخ) يومياً, ثم أعطوها في آخر الشهر لثقة يصرفها في مصارفها (جمعية معروفة نشاطاتها و مسجلة مثلاً) و راقبوا التغيير في حياتكم. ولا تنسوا الوالدان, هذا أقل القليل الذي تفعلونه لهم و تردون لهم من الجميل, أنفقوا بالسر و العلن و الله لا ينساك يوم القيامة. ليس هناك أفضل من أن تجربوا بأنفسكم بركة القليل حتى تسارعوا إلى زيادة المبلغ!
لكن هناك عدة أمور علينا أن نبقيها في بالنا, نحن لا نتصدق من أجل المباهاة, خير الصدقات أخفاها. الصدقة لله, و تذكر أنها تقع في يد الله جل جلاله قبل أن تقع في يد المحتاج فانظر كيف تحب أن تقع في يد الرب. و اجعل نيتك لله, تصدق من أجل الأجر و مساعدة المحتاجين لا تكبراً عليهم أو شفقة. و اعلم أن أحوج الناس للمساعدة هم من لا تراهم ولا يسألون الناس حياءً و عزةً. دع عنك المحتالين في الشوارع و على الإشارات, فهؤلاء غالباً ليسوا بمحتاجين لأنهم اتخذوها مهنة يأتون يومياً “للدوام” في نفس المكان و نفس الأوقات!!
أذكر قصة قرأتها منذ فترة طويلة, في كتاب عتيق لا يحضرني اسمه, أن رجلاً كان في العهد العباسي محتاجاً فقيراً كان معه درهمان فاشتهى أن يأكل حلواً أو هريسةً فاشتراها و وضعها في منديل و مشى. فاعترضته امرأة و معها بنت صغيرة فسألته إياها فأعطاها. ثم وسع الله عليه و صار من التجار و صار يتصدق دائماً بالأموال الطائلة, فنام يوماً و رأى في منامه كأن القيامة قامت و جيء بأعماله لتوزن و وضعت صدقاته فطاشت و قيل له إنما كانت بغير إخلاص و ذنوبه عظيمة كالجبال, ثم جيء بتلك الحلاوة في المنديل و وزنت فطارت خطاياه كأنه ورق الشجر. العبرة من القصة هي أن الإخلاص و النية الصادقة مهمة. النية لا تتطلب منك عملاً خارقاً, فقط ضع في بالك أنك تريد المساعدة و الخير لا غير, بسيطة =)
و لا تكن كالأبله الذي سمع الحسن رضي الله عنه يحث الناس على الصدقة و يقول ما نقص مال من صدقة و يعدهم بسرعة الخلف فتصدق بماله كله فافتقر. فانتظر سنة و سنة. فلما لم ير شيئاً بكر على الحسن فقال: حسن ما صنعت بي! ضمنت لي الخلف فأنفقت على عدتك. وأنا اليوم مذ كذا وكذا سنة أنتظر ما وعدت لا أرى منه قليلاً ولا كثيراً! هذا يحل لك آللص كان يصنع بي أكثر من هذا والخلف يكون معجلاً ومؤجلاً! [من كتاب البخلاء للجاحظ]
و الله إن الصدقة لشيء عجيب لا يعرفها إلا من جربها. ولا تنسوا زكاة أموالكم. أنا أبدأ بنفسي و أنتم تبدأون بأنفسكم, و لو وصلنا إلى أن ربع المجتمع يفعل الخير و يتصدق و يتطوع فهذه 25% تقدم لأمتنا و بلدنا, و كلما زادت النسبة كلما زاد تقدمنا و تطورنا.
تبسمك في وجهك أخيك صدقة.
0 التعليقات: